صورة مضيئة للإيثار
يقول المولى تبارك وتعالى في سورة الحشر: “والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون” (الحشر: 9).
أسباب النزول
ذكر الإمام السيوطي في سبب نزول هذه الآية: أخرج ابن المنذر عن زيد الأصم أن الأنصار قالوا: يا رسول الله، اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين الأرض نصفين قال: “لا، ولكن تكفونهم المؤونة وتقاسمونهم الثمرة والأرض أرضكم” قالوا: رضينا، فأنزل الله: “والذين تبوؤوا الدار” الآية، وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال: أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه، فلم يجد عندهن شيئا فقال: “ألا برجل يضيفه هذه الليلة يرحمه الله”، فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، وقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئا، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت ثم غدا الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: “لقد عجب الله أو ضحك من فلان وفلانة”، فأنزل الله تعالى: “ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”.
ويضيف الإمام السيوطي: وأخرج الواحدي من طريق محارب بن دثار عن ابن عمر قال: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا، فبعث به إليه فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر، حتى تداولها أهل سبعة بيوت، حتى رجعت إلى أولئك فنزلت: “ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”.
تفرد الأنصار
وهذه صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار، هذه المجموعة التي تفردت بصفات كما يقول الشهيد سيد قطب وبلغت إلى آفاق لولا أنها وقعت بالفعل لحسبها الناس أحلاما طائرة ورؤى مجنحة ومثلا عليا قد صاغها خيال محلق.
وقوله تعالى: “والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم” أي دار الهجرة، يثرب مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين كما تبوؤوا فيها الإيمان وكأنه منزل لهم ودار، وهو تعبير ذو ظلال، وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان، لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم وتسكن إليه أرواحهم ويثوبون إليه ويطمئنون له، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار.
ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثا جماعيا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي وبهذه المشاركة الرضية وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين.
“ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”، والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا، وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد له البشرية نظيرا، وكانوا كذلك في كل مرة وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر قديما وحديثا.
“ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون” فشح النفس هو المعوق عن كل خير، لأن الخير بذل في صورة من الصور؛ بذل في المال وبذل في العاطفة وبذل في الحياة عند الاقتضاء، ومن يوق شح نفسه فقد وقي هذا المعوق عن الخير، فانطلق إليه معطيا باذلا كريما، وهذا هو الفلاح في حقيقة معناه.