عقاب إلهي ساحق لقوم لوط
خلق الله آدم، وزوجه حواء، لينجبا الذرية التي يتم بها تعمير الأرض، وجعل بين الزوجين مودة ورحمة، يأنس كل منهما للآخر، ويزيل وحشته وهمومه، ثم تأتي الثمرة من خلال اللقاء، فيزيد النسل وتستمر البشرية في رحلتها الطبيعية لتقوم بالمهمة التي كلفها الله بها، لكن تأتي على البشرية أيام تصل فيها الى الحضيض في أخلاقها، فتنقلب المفاهيم وتتغير الثوابت، ويصبح الحق باطلا، والباطل هو الحق المبين للأسف الشديد.
وانظر الى الشواذ في أنحاء عالمنا المعاصر وما يحصلون عليه من دعم الحكومات الشيطانية، التي أقرت زواج المثلين سواء من الرجال أو الاناث، بدعوى “حقوق الانسان” وفي قصتنا اليوم قصة لوط عليه السلام اشارة قرآنية الى ذلك الخلل الأخلاقي الذي أصاب قومه الذين دعاهم للايمان فلم يؤمن منهم أحد، وكانوا أول من بدأ هذه الفعلة الشنعاء، بحيث يميلون الى الرجال بدلا من النساء.
ولنبدأ مع لوط عليه السلام من البداية، فقد كان معاصرا لابراهيم عليه السلام، وهو ابن أخيه، فآمن به، والى ذلك يشير القرآن الكريم: “فآمن له لوط وقال اني مهاجر الى ربي انه هو العزيز الحكيم” (العنكبوت: 26).
خرج لوط عليه السلام من أرض بابل بالعراق، ونزل بالأردن، واستقر في مدينة “سدوم” ليفاجأ بتردي أخلاق أهلها ونياتهم السيئة، وأنهم من أفجر خلق الله على وجه الأرض.
أصحاب الفاحشة
لم ينته الأمر عند هذا الحد، بل زاد الطين بلة كما يقولون ابتداعهم لفاحشة لم يسبقهم اليها أحد من البشر، فكانوا يأتون الذكور ويتركون النساء، ولا يقربونهن.
فلما اشتد الأمر، وزاد انتشار هذه الفاحشة، أمر الله سبحانه وتعالى نبيه لوطا عليه السلام أن يدعو هؤلاء القوم لعلهم يعودون الى صوابهم ويتركون هذه المعصية، لكنه لم يجد آذاناً صاغية، ولم يؤمن منهم واحد بدعوته، بل استمروا في فجورهم، وتمادوا في طغيانهم كما يقول محمود المصري وعن ذلك يقول القرآن الكريم: “ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرْسَلِينَ. اِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ. اِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ اِنْ أَجْرِيَ اِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ. وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ” (الشعراء: 160 166).
وكما يقول المسعودي في مروج الذهب: أقام لوط في قومه بضعا وعشرين سنة يدعوهم الى الله، فلم يؤمنوا وزاد عنادهم وغيهم وغابوا في غياهب الظلمات والجهل.
ويخبرنا المولى تبارك وتعالى بجواب قومه عندما واصل دعوته ومحاولاته معهم: “فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ اِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ اِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ” (النمل: 56).
نعم: أخرجوهم، لأنهم أطهار، ليسوا مثلنا يتدنسون بهذه الفاحشة، ولا عجب من هذا الرد كما يقول صاحب “في ظلال القرآن” يرحمه الله فإن ما قالوا هو نفسه ما تصنعه الجاهلية الحديثة الآن، التي تطارد الأطهار، بحجة التقدمية وتحطيم الأغلال عن المرأة، كما تطاردهم في أرزاقهم وأنفسهم وأموالهم وأفكارهم ولا تطيق أن تراهم يتطهرون، لأنها لا تتسع ولا ترحب الا بالملوثين الدنسين القذرين.
لم يجد لوط عليه السلام أمام هذا الرفض التام، بل اظهار العداوة الواضحة له الا أن دعا ربه: “رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ”، وسأل ربه أن ينصره على هؤلاء القوم المفسدين ويوقع بهم العذاب الأليم.
زوجة خائنة
واستجاب المولى سبحانه لدعاء رسوله لوط عليه السلام، وأرسل ملائكته الى أهل هذا البلد الظالم، ليذيقوهم العذاب الذي يستحقونه والقرآن الكريم يخبرنا أن الملائكة مروا أولا بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وحاول وهو لا يعرفهم أن يضيّفهم ويقدم اليهم الطعام، فلما رأى أيديهم لا تمتد اليه أنكر عليهم ذلك، وسألهم عن حقيقة أمرهم، فأخبروه بالحقيقة وأنهم أتوا ليوقعوا العذاب الالهي على قوم لوط.
هنا حاول الخليل ابراهيم أن يطمئن على لوط وأهله من هذا العقاب فطمأنوه على ذلك، بل بشروه في الوقت نفسه بأن زوجته العاقر ستلد له اسحق، ومن بعده يعقوب.
وتتجه الملائكة الى لوط مباشرة، ويقول تعالى: “وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ”، أي لما تركت الملائكة ابراهيم كما يقول المفسرون وهم جبريل وميكائيل واسرافيل، أقبلوا حتى وصلوا الى أرض سدوم، في صورة شبان حسان، اختبارا من المولى عز وجل لقوم لوط واقامة للحجة عليهم، وطلبوا من لوط أن يستضيفهم، فقبل على مضض كما يقولون خشية منه إن لم يفعل ذلك أن يستضيفهم هؤلاء القوم الأشرار، لاعتقاده أنهم بشر وليسوا ملائكة، أما قوله: “هذا يوم عصيب” فلأن هؤلاء القوم كانوا قد اشترطوا عليه ألا يضيف أحدا.
وصل لوط وضيوفه الى البيت، ولم يعلم بقدومهم سوى امرأته وبنتيه، فلما رأت زوجته هؤلاء الضيوف، اعتبرتهم صيدا ثمينا، وأرادت أن تقدمهم لقومها الأشرار، لتكون ذات منزلة عندهم بهذه “الهدية”.
فكانت هذه الزوجة “عينا” لهم على زوجها نبي الله الكريم، فدلتهم على الضيوف بطريقة لئيمة، فكان اذا نزل عنده ضيف بالليل، أوقدت نارا اذا لم تتمكن من الخروج لاخبارهم، أما اذا جاء الضيف نهارا، فإنها تلجأ الى اطلاق الدخان، أي أنها لم تكتف بكفرها وخيانة دين الله الذي يدعو اليه زوجها، وانما كانت تدل على لوط، وتغري به المجرمين وتفشي سره وتعاديه في دينه، ولذلك لم يغن عنها لوط على الرغم مما بينها وبينه من صلة الزواج، وقال الله عنها: “ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ”.
مواجهة حاسمة
بعد أن تمت الخيانة عن طريق الزوجة الكافرة انتشر الخبر بسرعة البرق وعلم أهل القرية المجرمون بضيوف لوط، فجاؤوا و”سعار” الفاحشة يقودهم ويستحثهم، ورأى لوط عليه السلام ما يشبه الحمى في أجساد القوم المندفعين الى داره، يهددونه في ضيوفه وكرامته، وحاول جاهدا أن يوقظ فيهم الفطرة السليمة، أو حتى تقوى الله ومخافته والنخوة التي يشتهر بها أهل البدو لكن هيهات أن تحرك هذه الكلمات الطاهرة قلوبا ميتة وعقولا مريضة.
وأصر الأشرار على ما انتووه، رغم عرض لوط عليه السلام لهم بأن يكفوا عن هذا الغي سواء بأن يتزوجوا من بنات القرية، أو حتى من بناته، لكن كل هذا ضاع أدراج الرياح!
ساعتئذ شعر لوط بمدى ضعفه وقلة حيلته، لعدم قدرته على صد هؤلاء المجرمين، وعبر عن ذلك القرآن بقوله: “قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي اِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ”، قال هذه الكلمات وهو يوجه كلامه الى الفتية الذين استضافهم وهو لا يزال لا يعرف أنهم ملائكة، فردوا عليه بالقول الذي ذكره لنا سبحانه وتعالى: “قَالُواْ يَا لُوطُ اِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ اِلَيْكَ”.
هكذا جاء الرد الحاسم.. وكشف الضيوف عن حقيقتهم وأنهم ملائكة الرحمن، وأخبروا لوطا عليه السلام أن الله أرسلهم ليهلكوا هؤلاء الظالمين، طالبين منه “فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ” أي اخرج بهم ليلا، وأضافوا “وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ اِلاَّ امْرَأَتَكَ” أي لا ينظر أحد منكم وراءه الا زوجتك فإنها ستهلك مثلهم، أو كما قال المفسرون لا يلتفت أحد منكم وراءه فيرى “الدمار الشامل” الذي حل بالقرية فلا تنفطر قلوبهم عليها، ثم أردفوا تعقيبا على حال زوجته “ اِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ” و”اِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ”.
فلما حان وقت عذابهم، أمر الله سبحانه وتعالى جبريل فاقتلع القرية، ثم أرسلها مقلوبة، عاليها سافلها، وأتبعهم الله بحجارة من سجيل، وقال سبحانه عن ذلك: “فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ. مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ” وربما جاء القول عاليها سافلها، أشبه بتلك الفترة المقلوبة الهابطة المرتكسة من قمة الانسان الى درك الحيوان، بل أحط منه.
لقد جمع الله عز وجل على من يفعل تلك الفعلة المشينة أنواعا من الحسرات والعقوبات في الدنيا والآخرة، وأكدت الشريعة الاسلامية أن عقوبة الفاعل والمفعول به هي القتل، قال صلى الله عليه وسلم: “من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به” ثم يأتي التحذير باللعن منه عليه الصلاة والسلام بقوله: “لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط” ولم يجئ عنه صلى الله عليه وسلم لعنه الزاني لثلاث مرات في حديث واحد وأكد لعنة الله للشاذ ثلاث مرات.