النسوة الأربع
قلنا إن القرآن عندما يسرد لنا تاريخ قوم غابرين، لا يريد بذلك السرد ذكر تاريخهم فقط، فذلك من شأن كتب السير والتاريخ. لكنه إذا ذكر قصص الأمم أراد بذلك العبر والعظات المستفادة من تلك القصص.
فمن ذلك أنه ذكر لنا عن امرأة نوح وامرأة لوط جانبا، كما ذكر عن امرأة فرعون ومريم ابنة عمران جانبا آخر.
فامرأة نوح وامرأة لوط ذكرهما وهما زوجتان لنبيين صالحين.
أما امرأة فرعون فذكرها وهي زوجة عدو الله فرعون مصر، ثم أردفها بذكر مريم ابنة عمران.
هؤلاء النسوة الأربع ذكرهن الله تعالى في سورة التحريم عند قوله تعالى: “ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط، كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما، فلم يغنيا عنهما من الله شيئا، وقيل ادخلا النار مع الداخلين”.
ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: “وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله، ونجني من القوم الظالمين، ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين”.
لو تأملنا في هذه الآيات لوجدنا أن الله سبحانه وتعالى يصور لنا نموذجين اثنين:
1- النموذج الأول هو وجود امرأتين غير صالحتين في بيت صالح، وكما رأينا فإن نوحا ولوطا كانا نبيين دعوا ليلا ونهارا إلى اصلاح المجتمع، في حين أن زوجتيهما لم تكونا صالحتين، وقد عبر القرآن بقوله: فخانتاهما، وقد يفهم من هذه الكلمة بأن الخيانة هي الزنا إلا أن المفسرين وضحوا بأن الخيانة هي غير الفاحشة، فزوجات الأنبياء معصومات من الوقوع في الفاحشة.
يقول ابن كثير في تفسيره: فخانتاهما أي لم توافقاهما على الإيمان، ولا صدقتاهما على الرسالة.
ثم قال: وذكر سفيان الثوري عن موسى ابن أبي عائشة عن سليمان بن قرم قال: سمعت ابن عباس يقول: فخانتاهما قال ما زنت، فخيانة امرأة نوح أنها كانت تخبر عنه أنه مجنون، وخيانة امرأة لوط أنها كانت تدل قومها على أضياف لوط.
وقال العوفي عن ابن عباس أيضا انه قال: فخانتاهما أي أنهما كانتا على غير دينهما، فكانت امرأة نوح تطلع على سر نوح فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح.
وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحدا أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء.
2- النموذج الثاني هو وجود امرأة صالحة في بيت غير صالح كما هي الحال مع آسية بنت مزاحم التي كانت زوجة لفرعون.
إن امرأة فرعون رغم كونها زوجة فرعون الذي كان يدعي الربوبية، فإنها كانت مؤمنة بربها بدليل أنها طلبت من ربها أن يبني لها قصرا في الجنة، وهل تطلب ذلك لو لم تكن مؤمنة بالله وبالجنة؟
وورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لخديجة رضي الله عنها: أما علمت بأن الله قد زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثوم أخت موسى وآسية امرأة فرعون؟ قالت: وقد فعل الله ذلك؟ قال: نعم، قالت: بالرفاء والبنين. أقول: هكذا رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق ورواه الطبراني بعبارة أخرى.
يقول سيد قطب في تفسيره في ظلال القرآن:
دعاء امرأة فرعون وموقفها مثل للاستعلاء على عرض الحياة الدنيا في أزهى صورة، فهي كانت امرأة فرعون أعظم ملوك الأرض يومئذ، وقصره أمتع مكان تجد فيه امرأة ما تشتهي، ولكنها استعلت على هذا بالايمان وطلبت النجاة.
ثم ضرب الله مثلا بمريم ابنة عمران التي كانت مثالا للتجرد لله منذ ولادتها، فهي التي أحصنت فرجها وليست كما تدعي اليهود.
أقول: ومن هذين النموذجين يمكن أن نخرج بأن العبرة ليست بالمكان بل بالمكين، فقصر فرعون لم يتشرف بفرعون بل بآسية.
ثم إن امرأة نوح وامرأة لوط لم تستفيدا عند الله من صلاح زوجيهما الصالحين، بل قال الله لهما: ادخلا النار مع الداخلين، ذلك أنه كل نفس بما كسبت رهينة.
ومقارنة امرأة فرعون هنا بمريم ابنة عمران تدل على المكانة العالية التي تتمتع بها آسية عند رب العالمين.
هذان النموذجان عندما ذكرهما الله في سورة التحريم لهما علاقة ببداية السورة حيث تحدثت عن زوجات الرسول اللاتي كانت تظهر منهن بعض المشاحنات أحيانا، فكأن الله يريد أن يقول لهن: لا يغركن أنكن زوجات للرسول وبذلك تدخلن الجنة، كلا فالجنة لمن أطاعت زوجها، وكيف لو كان هذا الزوج هو رسول الله؟ أليس مطلوباً منكن أن تكن أكثر استقامة؟
أقول: وفي هذا درس لنساء اليوم أيضا، فكثير منهن ناشزات لأزواجهن رغم أنهن يفتخرن بأنهن زوجات فلان وعلان وربما يصلين على أكمل وجه أيضا لكنهن ناشزات. وكثير منهن مظلومات أيضا عند أزواجهن حيث يجبرونهن على المعاصي وهن قانتات عابدات، ألا فلتتق الله أولئك في أزواجهن، وليتق الله هؤلاء في زوجاتهم.